بين الدعوات العاجلة إلى قصر الإليزيه مقر الرئاسة أو رئاسة الحكومة والمفاوضات تحت الضغط وحتى الاستفزازات، تشهد العلاقات بين النقابات والسلطة التنفيذية في فرنسا منذ أكثر من سنتين تقلبا كبيرة.
وقال الأمين العام “للكونفدرالية الديموقراطية الفرنسية للعمل” “سي أف دي تي” لوران بيرجيه لوكالة فرانس برس إن العلاقة “يشوبها الحذر”، وأضاف “اعتمدوا نظرية مفادها أن الهيئات الوسيطة تمنع الديموقراطية وليست رافعة لها”.
وكان الرئيس إيمانويل ماكرون حذر من قبل من أنه يفضل لأن تبقى النقابات في مكانها، أي داخل المؤسسات، وقال عندما كان مرشحا للرئاسة “أرغب في حركة نقابية أقل تسييسا، نحتاج إلى هيئات وسيطة لكن في المكان الصحيح”، وعند وصوله كانت النقابات التي كان لبعضها تجربة لماكرون كمستشار في الإليزيه أو في وزارة المال، تعرف أنه سيكون عليها اقتحام الوزارات وستواجه صعوبة في إسماع صوتها، وهذا خصوصا أن مرحلة ما بعد الانتخابات تشهد ترقبا يصعب خلاله القيام بأي تعبئة اجتماعية والنقابات تراجعت شعبيتها إلى أدنى مستوى على غرار الأحزاب السياسية، ولهذا السبب أخفقت التعبئة ضد قانون العمل في 2016.
ومر تعديل قانون الذي كان أول إصلاح في الولاية الممتدة خمس سنوات، بلا مشاكل مع أن هذه النصوص تثير غضب النقابات أيضًا لأنها تنص على دمج الهيئات التمثيلية للموظفين وتلغي على مر الوقت عشرات الآلاف من الممثلين المنتخبين في الشركات الفرنسية، ونظمت نقابتا “الكونفدرالية العامة للعمل” “سي جي تي” و”متضامنون” “سوليدير” بعض التظاهرات لكنها لم تحقق نجاحا كبيرا، وتم تقديم طلبات إلى القضاء لم تفض إلى نتيجة، وبينما يعبر البعض في قاعدة “الكونفدرالية الديموقراطية الفرنسية للعمل” يعبرون عن سخطهم، لا يريد لوران بيرجيه الدخول في مواجهة.
وقال “علينا ألا نعطي الحكومة الحجج لإدراجنا في خانة العالم القديم في صف المشتكين العاجزين”، لكن التشنجات حول المضمون والأسلوب تتزايد وباتت النقابات تشعر أنه يتم تجاهلها والالتفاف عليها حتى إهانتها، وقال باسكال بافاجو الذي شغل منصب الأمين العام لنقابة “القوة العاملة” “فورس اوفريير” إن “ماكرون من الذين يؤمنون بمبدأ “أنا افكر إذا أنا موجود”.
من جهته، رأى فيليب مارتينيز الذي يقود “الكونفدرالية العامة للعمل” أن ماكرون “يلعب بالنار”، بينما يطلق ممثل نقابة “الكونفدرالية الفرنسية للكوادر” فرانسوا هومريل التغريدة تلو الأخرى ضد السلطة التنفيذية ويقاطع بعض الاجتماعات، وكان لوران بيرجيه صرح في مايو 2018 إنه “مع إيمانويل ماكرون إما أن نوافق على كل شيء أو لا يحق لنا التدخل”، موضحا قبل ستة أشهر من بدء حركة “السترات الصفراء” أنه يخشى صعود “التطرف”.
بعد شهر دان بيرجيه “الرؤية الانكلوساكسونية” لمجتمع ماكرون، التي تعزز “التيارات الشعبوية”، كما شن هجوما على سياسة الهجرة في مقال كتب فيه “السيد ماكرون سياستكم تتناقض مع المبادئ الإنسانية التي تدعون إليها”، وبعدما كانت المحاور المفضلة في الولاية الرئاسية السابقة، لم يعد “للكونفدرالية الديموقراطية الفرنسية للعمل” حظوة لدى السلطة وتسعى لإيجاد مخرج للوضع.
في هذه الأثناء، في “الشركة الوطنية لسكك الحديد” لم يمنع نزاع استمر ثلاثة أشهر إصلاحا حول المؤسسة إلى شركة مغفلة وأثار استياء عمال سكك الحديد، وحتى في هيئة أرباب العمل التي يديرها رئيس جديد هو جوفروا دو بيزيو، لم يلق ذلك قبولا.
في حادثة غير مسبوقة في ذاكرة النقابيين والمتعهدين، اجتمعت كل النقابات ومنظمات أرباب العمل في المجلس الاقتصادي البيئي والاجتماعي، وقد قررت التوافق قبل أول موعد في الإليزيه مع كل الشركاء الاجتماعيين، قدمه رئيس الدولة على أنه فرصة “لإرساء أسس عقد اجتماعي جديد، عقد القرن الذي يبدأ”، واحترمت النقابات كل اللقاءات لكنها التزمت الحذر.
وبعد شهر عقد اجتماع في مقر رئاسة الحكومة هذه المرة، ولم يقنع اللقاء فيليب مارتينيز، وقال “لم يتغير شيء، يستدعوننا ليوضحوا ما سيفعلونه هذا العام، ويقولون لنا “على كل سنفعل ما نريد”.
وجاءت بعد ذلك أزمة “السترات الصفراء” في خريف 2018، التي كان العديد من النقابيين يتوقعون حدوثها، وغرقت السلطة التنفيذية في أزمة تواجه صعوبة في الخروج منها، ورفض رئيس الحكومة أدوار فيليب عرض لوران بيرجيه للمساعدة، وفي نهاية المطاف أطلق سلسة إجراءات سميت “الفصل الثاني” للولاية الرئاسية ومعه حوار واسع، لكن ذلك لم يقنع النقابيين.
وبدأت ملامح الوضع ترتسم، وقال فرنسوا هوميريل أن “السير قدما مع شخص لا يتقن العمل أمر معقد”، وآخر فصل في هذا المسلسل ترك أثرا : قضية التأمين ضد البطالة، فبعدما دعوا إلى التفاوض تحت الضغط على حد قولهم، لم يتمكن الشركاء الاجتماعيون من التفاهم، وعلق ماكرون قائلا “نحن في نظام غريب، كل يوم يرددون في البلاد هيئات وسيطة وديموقراطية مناطقية وديموقراطية اجتماعية ودعونا نتحرك وعندما نمد لهم اليد يقولون هذا أمر صعب لا نريده”.
وشكل هذا التصريح استفزازا للنقابات ولهيئة أرباب العمل، وقال لوران بيرجيه إن “البحث عن كبش محرقة مغر على الأمد القصير لكنه يأتي بنتائج عكسية في المستقبل”.
وبعد تسعة أشهر شارك بيرجيه في تظاهرات الثلاثاء ضد تعديل نظام التقاعد بينما كان هو شخصيا الأكثر تأييدا لمبدأ “نظام للتقاعد الشامل” بدلا من أنظمة التقاعد الـ42 المعمول بها حالياً في فرنسا.