شهد قطاع الأغذية في دول مجلس التعاون الخليجي نموا متسارعاً وملفتاً، ويعود السبب في ذلك إلى زيادة عدد السكان وارتفاع دخل الفرد. كما يشكل الاعتماد الكبير على الواردات الغذائية تحديًا كبيرًا لهذه الاقتصادات، مما يجعل النقاش حول مسألة الاكتفاء الذاتي الغذائي أمراً في غاية الأهمية.
وفي أحدث تقرير لها حول الأغذية في دول مجلس التعاون الخليجي، قدّرت شركة «ألبن كابيتال» وصول معدلات استهلاك الأغذية في دولة الإمارات العربية المتحدة إلى 10.3 ملايين طن متري و و39.0 طن متري في المملكة العربية السعودية بحلول العام 2023. وهذا الاعتماد على المصادر الخارجية للغذاء لا ينبغي أن يُنظر إليه على أنه مشكلة طالما أن سلاسل التوريد العالمية مستمرة في عملها ولم يتعطّل الإنتاج في بلدان المنشأ. كما أظهر التقرير بأن البلدان الخليجية تستورد ما يقارب 85% من إجمالي الأغذية التي تستهلكها، وهو الأمر الذي يعرّض المنطقة لتقلبات أسعار الغذاء العالمية. كما سيكون للمخاطر الجيوسياسية في المنطقة تأثير سلبي على الإمدادات الغذائية في المنطقة.
إلا أننا وخلال الأشهر الأخيرة، سمعنا الكثير عن اتجاهات “الاكتفاء الذاتي”، وهو قدرة الدولة على إنتاج احتياجاتها الغذائية من دون الاعتماد على أي مصادر خارجية. وقد شهد العام 2020 بالفعل قيام العديد من الدول بتخزين الأرز والقمح، وكذلك تهافت المستهلكين على الشراء المحموم لمخلتف السلع الغذائية. لقد أصبحت مسألة التغير المناخي والاحتمالات السائدة حالياً حول توقعات بانخفاض غلة المحاصيل تشكل مصدر قلق دائم، وهناك مخاوف من أن يكون للقيود المفروضة على حركة العمال الزراعيين تأثير على المحاصيل الزراعية لهذا العام. وأود الإشارة أيضاً إلى أن بعضاً من هذه العوامل قد جاءت كنتيجة مباشرة لتفشي وباء “كوفيد -19” الذي يرجع السبب إليه أيضاً في تفاقم بعض العوامل الأخرى.
وقد عانت العديد من البلدان حول العالم من نقص في الإمدادات الغذائية في الفترة الأخيرة، في حين بادرت حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة إلى اتخاذ خطوات مبكرة بالتزامن مع بداية تفشي الوباء، وذلك بهدف الحرص على توفير إمدادات الغذاء الدائمة والمضمونة لسكان الدولة. وبفضل القرارات السديدة والسريعة التي اتخذتها القيادة الرشيدة في الدولة، تمكنت الأسر من الحصول على إمدادات الطعام والأدوية والسلع المنزلية بشكل مستمر ودون انقطاع.
ونتيجة للثغرات التي كشف عنها وباء “كوفيد-19″، أعتقد بأننا الآن نشهد تنامياً متسارعاً في زخم الجهود المبذولة لتحسين قدرات الاكتفاء الذاتي الغذائي في دول مجلس التعاون الخليجي. وعلى مدار الشهرين السابقين، ومنذ سريان إجراءات الإغلاق التام نتيجة تفشي الوباء ، لوحظ تزايد إقبال دول مجلس التعاون الخليجي على الاستثمار بشكل واسع في الشركات المتخصصة بالتقنيات الزراعية.
وكانت شركة “وفرة للاستثمار الدولي” الكويتية قد أعلنت عن نيتها استثمار مبلغ قدره 100 مليون دولار أمريكي في “بيور هارفست”، وهي شركة ناشئة تُعنى بزراعة وإنتاج محاصيل الفاكهة والخضراوات محليًا في مزارع مغلقة وبيئة متحكم فيها.
وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، أعلن مكتب أبوظبي للاستثمار بأنه يعتزم استثمار 100 مليون دولار أمريكي في أربع شركات متخصصة بالتقنيات الزراعية لتمويل تأسيسها في أبوظبي. ويأتي هذا الإعلان على غرار برنامج مكتب أبوظبي للاستثمار الحالي بتكلفة تبلغ مليار درهم والهادف إلى دعم إنشاء المشاريع الزراعية في أبوظبي، وسوف تستفيد الشركات المؤهلة من فرص استرجاع نسبة تصل إلى 75% من تكاليف عمليات البحث والتطوير لديها.
كشف مجمع الشارقة للبحوث والتكنولوجيا والابتكار مؤخراً النقاب عن تفاصيل تعاونه مع شركة مارلين العالمية لتطوير تقنية “الاكوابونيك” التي تدمج بين تربية الأحياء المائية والزراعة في إطار دورة نظام إنتاج غذائي مغلق. وخلال إحاطات لوسائل الإعلام المحلية، دعا مجمع الشارقة للبحوث والتكنولوجيا والابتكار أصحاب المزارع والمستثمرين إلى الاستفادة من هذه التكنولوجيا وتطبيقها في سائر أنحاء دولة الإمارات العربية المتحدة.
واستناداً إلى قوة هذه الاستثمارات، فمن المرتقب أن تصبح دول مجلس التعاون الخليجي مركزًا رئيسيًا للابتكار في مجالات الزراعة الداخلية والعمودية وتقنية ” الاكوابونيك”. وبالنظر إلى المتطلبات اللازمة لطرق الإنتاج الغذائي هذه (طاقة أكثر ومياه أقل من تلك المستهلكة في الزراعة التقليدية) فمن الممكن لدولة الإمارات العربية المتحدة الاستفادة من التطبيق الواسع النطاق لمثل هذه التقنيات لديها، خصوصاً في حال كانت الألواح الشمسية تولد الطاقة في الموقع.
وباعتقادي أن جهود دول مجلس التعاون الخليجي لتحقيق قدر أكبر من الاكتفاء الذاتي قد اكتسبت زخماً إضافياً نتيجة لتفشي وباء “كوفيد – 19″، غير أن الواقع يشير أيضاً إلى أن البنية الأساسية لهذه السياسة كانت موجودة بالفعل. وأود أن أشير في هذا السياق إلى أنه قد تم إطلاق برنامج الأمن الغذائي الوطني في دولة الإمارات العربية المتحدة في نوفمبر 2018، وقد كانت رؤية واستراتيجية البرنامج هي الدافع وراء قيام شركتنا “إتش دي إف (ش.م.ح) باستثمار 100 مليون درهم لمشروع بناء مصنع جديد ضخم لإنتاج منتجات “بينار” في دولة الإمارات العربية المتحدة.
وفي نوفمبر 2019، قمنا بافتتاح أول مصنع لنا لإنتاج الجبنة المطبوخة في دولة الإمارات العربية المتحدة في مدينة خليفة الصناعية أبوظبي (كيزاد). وفي حين أن مستوى طاقتنا الانتاجية يبلغ حالياً 30 ألف طن من الجبنة المطبوخة سنوياً، نخطط لمضاعفة قدرتنا الانتاجية في المستقبل القريب.
يُعدّ الأمن القومي والاستقلالية من العوامل الدافعة التي تحثّ دول مجلس التعاون الخليجي على مواصلة السعي لتحقيق برامج الاكتفاء الذاتي الغذائي بكل نشاط، على الرغم من أنها تنطوي على الكثير من الجوانب الإيجابية والعديد من المنافع. إن الإنتاج الغذائي محلياً من شأنه أن يمنح دفعة كبيرة للاقتصادات الإقليمية. ففي واقع الحال، عندما تم إطلاق البرنامج الوطني للأمن الغذائي في دولة الإمارات العربية المتحدة عام 2018، والذي كان من المتوقع له المساهمة في خلق 16,000 فرصة عمل إضافية وتحقيق انتعاش اقتصادي هائل بما يقارب 22 مليار درهم بحلول العام 2021. وبحلول العام 2051، وهي الفترة التي تطمح دولة الإمارات العربية المتحدة أن تصبح فيها الدولة ذات الأمن الغذائي الأعلى مستوى في العالم، وسيكون هذا الدعم الاقتصادي أكبر بأضعاف عديدة. ويمكن تحقيق ذلك عن طريق تعزيز ودعم الانتاج المحلي والاستثمارات المحلية جنبا إلى جنب مع التبادل التجاري والواردات والتي تهدف من خلالها الدولة إلى أن تصبح مركزًا إقليميًا لتجارة المواد الغذائية.
هناك الكثيرون الذين يعتقدون بأنه بعد أن يصبح وباء “كوفيد-19” تحت السيطرة، ستعود البشرية إلى الوضع الذي كانت عليه في السابق، وسيكون هناك تدفق للمنتجات المستوردة. ومع ذلك، أعتقد بأننا قد نشهد تحولاً في السلوك نحو الأفضل، وينبغي أن يكون لجهود تسريع وتيرة البرامج لغرض زيادة قدرات إنتاج الغذاء المحلية نتيجة إيجابية ملموسة وشاملة. إن تحويل الإنتاج الغذائي إلى النطاق المحلي هو الخيار الاستراتيجي الأنسب لدول مجلس التعاون الخليجي، وسيلعب دوراً في منح دفعة كبيرة لاستراتيجيات التنويع الاقتصادي لديها.