في ساحات الزمن التاريخية، شكلت الأسواق نسيجاً للحياة الاقتصادية والثقافية في الجزيرة العربية، وقلباً نابضاً يضخ بالحياة في عروق المدن والمجتمعات، ومركزاً للمعرفة والخطابة والشعر والعناية بالمخطوطات والحرف اليدوية والعمارة والتصميم، فامتدت أهميتها في هذه الأرض الخصبة بالحضارة عبر العصور، وشكلت محاوراً تجارية حيوية تربط الشرق بالغرب، وموانئ برية وبحرية للقوافل التجارية والثقافية وقناة حيوية لازالت قائمة حتى اليوم للتبادل الثقافي الدولي، فبعد أن جلبت الثراء والتنوع الحضاري إلى عمق العروبة، ها هي تقف معالمها شاهدة لإثراء الثقافة الإنسانية بالتنوع الثقافي الذي تتميز به المملكة عبر التاريخ، والتي اشتهرت أراضيها بأشهر الأسواق التاريخية الممتدة منذ آلاف ومئات السنين.
ولكونها فضاء إنساني واستثنائي تتجلى به الكثير من المظاهر المجتمعية، ارتأت وزارة الثقافة أن تجعل من “السوق” وجهة جاذبة عبر موسم رمضان 1445هالذي أطلقته تحت شعار “نورت ليالينا” بهدف إحياء الموروث الثقافي التاريخي المتعلق بشهر رمضان المبارك.
ولأجل هذا تأنق “سوق الزل“ في مدينة الرياض، و“سوق جدة البلد“ في مدينة جدة، اللذان تضرب أطنابهما التاريخية في الأصالة. ولهما عراقة تجعلهما من شواهد الماضي ومفاخر الحاضر، بينما أدت دوراً في حماية التراث وإذاعته؛ إذ يتبضع فيها الزوار ماديات تجسّد ثقافتهم وإرثهم؛ كالمباخر والأزياء التقليدية والمشغولات اليدوية، التي جعلت السوقين من أبرز، وجهات السعوديين، والمقيمين،والسياح.
وقد كانت الزينة أول ما وهب المكانين في الشهر الفضيل طابعاً فرائحياً، إذ تجملت أروقة السوقين بهذه الزينة لتغدو مواطن بهجة، إلى جانب بعض المشاهد التفاعلية التي أثارت حيوية المكان وقيمته؛ والباعة المتزينين بأزياء تراثية، وكذلك الأطفال وهم يلعبون الألعاب الشعبية.
واستطاعت الأسواق رغم إطارها التجاري على استيعاب سلوكيات المجتمع وتوفير مستلزماته إلى أن أصبحت مقصداً يجوب فيها الفرد ذاكرة المدينة وهو ينصت إلى صوتها الرخيم ويرى هيئتها العتيقة، حيث تعد مسرحاً للموروثات الثقافية والمعايشات الشعبية لا سيما أثناء شهر رمضان المبارك الذي يستلهم فيه المجتمع ذاكرته ومشاعره ويعزز قيمه في هذه الملتقيات الكبرى.