ينحني أنيس بوشناق في ورشته في شمال غرب تونس على آلة عمرها نحو مئة عام يحوّل بها قطعة من خشب الخلنج إلى غليون، وهي حرفة جلب جدّه أسرارها من أوروبا قبل نصف قرن، ويأمل أنيس في أن ينقلها بدوره.
في العام 1968، جلب جدّ سامي الشاذلي بوشناق من سويسرا آلات للثقب والتجويف لتمكنه من تحويل خشب الخلنج في مشغله في طبرقة ورفض الفرنسيون في المقابل منح الجدّ أسرار الحرفة وخباياها.
إلا أن الشاذلي جمع ما أمكنه من تقنيات العمل من خلال استراقه النظر عبر نافذة ورشة في مدينة سان كلود في منطقة جورا الفرنسية التي كانت تُعتَبَر عاصمة الغليون المصنوع من خشب الخلنج.
عاد أنيس في العام 2011 الى تونس حين توفي الجد وقرّر منذ ذلك التاريخ احياء الورشة واعادة أمجادها ويروي أنيس لوكالة فرانس برس أن أحد المولعين بجمع الغلايين في تونس هو الذي نقل إليه “الشغف بهذا العمل” ويضيف “لقد كشف لي عن آفاق المهنة”.
استفاد أنيس من مساعدة حرفي كان يعمل مع جدّه، أفشى له بكل أسرار مراحل الصناعة وتقنياته، قبل ان يقرّر الحفيد في العام 2020 الغوص في أغوار هذا الفن وأصبح أنيس في سنّ 37 عاما يملك تصاميم خاصة به وتلقى استحسان كثيرين، وأصبح الوحيد في تونس ومن بين قلّة في المنطقة الذين يحترفون صناعة الغليون بالطريقة اليدوية.
بدأ أنيس التعامل مع زبائن من المحامين والسياسيين والأطباء ثم مع جامعين للغليون ودبلوماسيين “يرغبون بإهداء قطع أصلية” ويتميز خشب الخلنج بمقاومته للحرارة ولا يحتوي على أي طعم ما يتيح من تذوق نكهات التبغ الصافية.
يقول الحرفي وقد ظهرت نُدب على يده من آثار صقل الخشب “أشعر بفخر بأني صانع الغليون الوحيد في تونس، ولكن وبصراحة أحبذ لو كانت توجد منافسة لأنها تدفعني للتقدم أكثر” ويتابع “السوق كلّه لي، وأشعر بثقل المسؤولية لأني الوحيد لكي أمرّر المشعل لشخص آخر” يعمل مع أنيس حرفيان وأمامه طلبات لا تنتهي للتجهيز، ويقول “كل غليون أنجزه يباع”.
يقضي أنيس معظم الوقت في ورشته في ساحة منزل العائلة، حيث يستلهم التصاميم التي ينفذها لاحقا ويقول “ينتابني إحساس بالرجوع الى الوراء أمام هذه الآلات القديمة ومهمة المحافظة على طريقة الصناعة التقليدية للغلايين مثلما كان يفعل أبي وجدّي في السابق” وفي تقديره “هي ورشة ومتحف وبداخلها روح”، لدرجة أنه يكتفي بعمليات التنظيف الضرورية في المكان ويترك للعناكب مجالا لبناء بيوت على الآلات.
يبدأ العمل باختيار قطعة من الخشب داخل الورشة التي يطلق عليها تسمية “مغارة علي بابا”، وهي عبارة عن غرفة أرضية وتحتوي على كنز العائلة من قطع صغيرة من خشب الخلنج مجففة منذ قرابة عشرين عاما.
يكشف أنيس أنه يملك “كميات تكفي للعمل طوال السنوات العشر المقبلة” بوتيرة لا تتجاوز صناعة غليونين كل يوم يقطع خشب الخلنج في البداية ثمّ يغلى في الماء لمدة 12 ساعة ليُجفّف من أربعة أعوام الى عشرين عاما، وكلما طالت سنوات التجفيف، تحسنت نوعية الخشب.
يفضل أنيس القيام بكل مراحل الصناعة من تقطيع وتشكيل وتجويد للقطع يدويا، ويقول “باستطاعتي العمل بآلات حديثة وذلك يسهل المهمة، ولكن أفضل مواصلة العمل يدويا لأنني أجد فيه سعادة”.
يواجه قطاع الصناعات التقليدية في تونس تبعات وخيمة بسبب وباء كورونا واضمحلال السياحة في البلاد، لكن أنيس يقدم بديلا يعوض الصورة النمطية للسياحة في البلاد والتي تختزل بصورة ” جمل ونخيل وسجاد”.