أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور ياسر الدوسري المسلمين بتقوى الله سبحانه وتعالى بالإكثار من الطاعات لنيل رضوانه عز وجل ومراقبته في السر والعلن.
وقال فضيلته في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم بالمسجد الحرام إن للعلمِ في الإسلامِ منزلةً عُظمى، ومرتبةً كُبرى، يبلغُ العبدُ بهِ منازلَ الأبرارِ، في جناتٍ تجري منْ تحتهَا الأنهارُ، قالَ تعالى: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ}، فالعلمُ أفضلُ ما أُفنيتْ فيهِ الأعمارُ، وأُنفقتْ فيهِ الأموالُ، فهو الطريقُ إلى معرفةِ اللهِ وخشيتِهِ، وتعظيمِهِ ومخافتِهِ، قالَ تَعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، ولكلِّ ساعٍ إلى النجاةِ وصولٌ، وإنَّما الوصولُ إحكامُ العَملِ بأحكامِ العِلْمِ المنقولِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَى الجَنَّةِ”.
رواهُ مسلمٌ.
وأشار إلى أنَّ العلمَ حياةُ القلوبِ، ونورُ البصائرِ والعقولُ، بهِ يُطاعُ الله ويُعبدُ، ويُذكرُ ويحمدُ، وبهِ توصلُ الأرحامُ، ويُعرفُ الحلالُ منَ الحرامِ، طلبُه قُربةٌ، وبذلهُ صدقةٌ، ومدارستُهُ عبادةٌ، ولذا جاءتْ نصوصُ الوحيين متضافرةً في بيانِ فضلِهِ، وما أُعدَّ لأهلِهِ، قالَ تَعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}، وعن مُعَاوِيَةَ قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ”.
رواه البخاريُّ ومسلمٌ.
وأكد أن العِلمَ بالكتابِ والسنةِ هو الأصلُ الذي تُبنى عليه سائرُ العلومِ، وعلماءُ الشريعةِ الراسخون همْ ورثةُ الأنبياءِ، وهم الأخيارُ الأصفياءُ، والأئمةُ الثقاتُ، والأعلامُ الهداةُ، والأدلّاءُ الذين يُهتدى بهم في المُلماتِ، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي اللهُ عنهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلى الله عَلَيهِ وَسَلمَ يَقُولُ: “إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرِثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ”.
رواه أحمد، فمِنْ سلكَ الطريقَ بلا علمٍ، وقطعَ مفازةَ الحياةِ بلا بصيرةٍ وفهمٍ، فقدْ سلكَ عسيراً ورامَ مستحيلاً، إذ لا يستطيعُ المرءُ أنْ ينفعَ نفسَهُ، أو يقدِّمَ خيراً لمجتمعِهِ إلا بالعلمِ، فبالعلمِ تُبنى الأمجادُ، وتُشيّدُ الحضاراتُ، وتسودُ الأممُ، وما فشَا الجهلُ في أمةٍ منَ الأممِ إلا قَوَّضَ أركانَهَا، وصدَّعَ بنيانَهَا.
ومضى فضيلته قائلاً إنَّ ديننَا الحنيف كما فرضَ طلبَ العلومِ الشرعيةِ، فإنه حثَّ على اكتسابِ العلومِ الكونيةِ؛ التي بها صلاحُ الإنسانِ وعمارةُ الأرضِ، قالَ تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}، ومنْ محاسنِ هذا الدينِ وكمالِهِ أنهُ جاءَ بالأخلاقِ العاليةِ، والمبادئِ الساميةِ، التي تحكمُ الحياةَ وعلومَهَا، وتضمنُ استقرارَهَا واستمرارَهَا، محققةً المقاصد الكبرى والغاياتِ العظمى، التي أرادَهَا اللهُ تَعالى، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ”.
رواه البيهقيُّ.
وقال إمام وخطيب المسجد الحرام أوشكتِ الإجازةُ على الانقضاءِ، وأيامُها على الانتهاءِ، غَنِمَ فيها قومٌ، وفرَّطَ آخرونَ، وها نحنُ على مشارفِ عامٍ دراسيٍّ جديدٍ، تستأنفُ فيه رحلةُ العلمِ والمعرفةِ، وتنطلقُ مسيرةُ التعليمِ في طريقِ الرُّقي والازدهارِ والعِزَّةِ والافتخارِ.
واعلموا – رحمكم الله – أنَّ المؤسساتِ التعليمية إنما أُنشئتْ لتكونَ مناراتٍ للهُدى، وأبوابًا للخيرِ، ونماءً للعلمِ، وزكاءً للنفسِ، وتأسيسًا للفضيلةِ، فعلينا أنْ نستشعرَ هذه المسؤوليةَ العظيمةَ، وأنْ تتحدَ جهودُنَا لتحقيقِ تلكَ الأهدافِ الساميةِ، والغاياتِ النبيلةِ، وأنْ يكونَ مدارُ أعمالِنَا على الإخلاصِ؛ فما كان للهِ يدومُ ويتصلُ، وما كانَ لغيرهِ ينقطعُ ويضمحلُ، فإنما الأعمالُ بالنياتِ، يقولُ ابنُ المباركِ رحمه الله: “أَوَّلُ العِلْمِ النِّيَّةُ، ثُمَّ الِاسْتِمَاعُ، ثُمَّ الفَهْمُ، ثُمَّ الحِفْظُ، ثُمَّ العَمَلُ”.
وخاطب الدكتور الدوسري المعلمين والمعلمات قائلاً إنَّ التعليمَ مِهنةٌ جليلةٌ، تقلَّدهَا الأنبياءُ، وورثَهَا العلماءُ، وقامَ بها الأخيارُ والصلحاءُ، فطوبى لمن عَرَفَ حقَّهَا، وبذلَ الوسعَ في إتقانِهَا، فالتعليمُ رسالةٌ وأنتم حملتُهَا، وعليكمْ بعدَ اللهِ تُعقدُ الآمالُ، وتُحطُّ عندكمْ الرِّحَالُ، فبينَ أيديكمْ عقولُ الناشئةِ، فأغنوهُم بالعلومِ النافعةِ، وأَقْنُوهُم بالوصايا الجامعةِ، وابذلوا قصارَى جهدِكُم في التربيةِ على الأخلاقِ الفاضلةِ، والآدابِ الزاكيةِ، والمكارمِ الساميةِ، واغرسُوا في القلوبِ الولاءَ للهِ ولرسولِهِ، ثم السمعَ والطاعةَ لولاةِ الأمر، واحرصُوا على تعزيزِ الانتماءِ للوطنِ، والمحافظةِ على ثقافتِهِ ومقدراتِهِ، والسعي لتحقيقِ رؤيتِهِ وتطلعاتِهِ.
يا مصابيحَ العلمِ والنورِ، لقدْ كانَ نبيُّكم؟ في تعليمِهِ حليماً رفيقاً، رحيماً شفيقاً، ييسِّرُ ولا يُعسِّرُ، يبشِّرُ ولا يُنفِّرُ، فعنْ معاويةَ بنِ الحكمِ رضيَ اللهُ عنه قالَ: “فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللهِ، مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي”.
رواه مسلمٌ.
ودعا فضيلته الآباء والأمهات إلى تربية الأبناء على حُبِّ العلمِ وإجلالِ العلماء وأنَّ الأدبَ قبلَ العلمِ رفعةٌ وسناءٌ، فهذه والدةُ الإمامِ مالكٍ كانتْ تُلبسُهُ أحسنَ الثيابِ، ثمَّ تقولُ لَه: اذهبْ إلى ربيعةَ فتعلَّمْ مِنْ أدبِهِ قَبلَ علمِهِ.
واعلمُوا – رحمكم اللهُ – أن لكم في التربيةِ والتعليم الجانبَ الأكبرَ، والحظَّ الأوفرَ، فإنَّ أولادَكُم ودائعُ عندَكُم، قالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: “أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ”.
متفقٌ عليهِ.
وحث فضيلته الطلاب والطالبات على الجدِّ والاجتهادِ، وعلوِّ الهمةِ لنيلِ المرادِ، واستثمارَ ما أعطاكُم اللهُ منَ الهباتِ والملكاتِ للرقي في مدارجِ العلمِ، وتحقيق أعلى الدرجاتِ، فمنْ طلبَ عظيمًا بذلَ عظيمًا.