تُمثّل سباقات الهجن جوهراً ثقافياً براقاً على امتداد الوطن، حيث عُرفت بأنها رياضة الآباء والأجداد، والتي يعود تاريخها لمئات السنين، مما جعل مجالاتِ المهن المرتبطة بها لا تموت حتى مع ما تشهده المجتمعات من حداثة بمرور الزمن، وذلك نظراً للاعتزاز الكبير الذي يُولِيه السعوديون للإبل، نظراً للعلاقة التاريخية التي تربطهما ببعض، وهو ما حدا بوزارة الثقافة إلى أن تَسِمَ عام 2024 بـ “عام الإبل”، وذلك بهدف تأصيل مكانتها الراسخة باعتبارها موروثاً ثقافياً يعكس الهوية السعودية.
وعلى الرغم من الزخم الكبير الذي يصاحب سباقاتِالهجن، من حملاتٍ إعلامية، وحماس وترقُّب الجماهير،والاستعدادات الكبيرة من قِبل أصحاب ومُلّاك الإبل، والاحتفالات بفوز النُّوق المتسابقة في نهاية الجولات، إلا أن هناك مهنةً متوارية عن الأنظار، رغم أهميتها التي تتجاوز مسافاتِ السباق، لكون رحلتها تنطلق من جذور التعامل مع سلالة النُّوق المتسابقة، مروراً بعملية تغذيتها ورعايتها المستدامة، وصولاً إلى التتويج وتحقيق قصص الأمجاد والبطولات الفريدة، وهي مهنة “المُضمِّر” الذي يقوم بترويض الهجن من خلال عدة مراحل، يتم فيها تعويدها على الانصياع للأوامر، وتدريبها على الجري السريع.
وعند الحديث عن الدور المهم لـ “المُضمِّر” في تأهيل “المطايا”، تبرُز قدرته بوضوح على تمييز “الناقة السبوق”، إذ تظهر عدة دلائل تُلقي الضوء على كفاءتها، ويأتي في المقدمة نسبُ الناقة والذي قد يكون المؤشر الرئيسي، فإذا كانت نتاجَ فحلٍ أو ناقةٍ سبوق فمن المرجح أن تحتضن سرعة الركض كصفةٍ موروثة، ويتجلّى حِذقُالمُضمِّر في استنتاج مؤشرات أخرى مثل القوام واللون وشكل الأذنين، مما يجعل المطيّةَ الخيارَ الأمثل في عروض السباقات.
وبعد اختيار الناقة السبوق يَظهَر التباينُ والتنوّع فيأساليب التدريب بين المُضمِّرين، ورغم هذا التنوع فقد اتّضح أن هنالك قواعد أساسية تُتَّبع، وتتمثل في تحديد أنواع الغذاء المناسبة، واستخدام الأدوية الملائمة، ومع ذلك يحتلّ كلُّ مُضمِّر مكانةً فريدة بتوجيه خطط تدريبٍ مُلائمة، تأخذ في اعتبارها مُتغيِّراتٍ مثل عمر المطيّة وسرعتها، ونوع السباقات المستهدفة.
وفي الربيع الأول من عمر المطيّة تنطلق عملية التضمير، وتنقسم إلى ثلاث مراحل تدريبية، تبدأ “بالعسافة أو الترويض” حيث يوضع “الخطام” في رأس المطيّة، وتُقيَّد اليدان بحبل القيد لكي تُربط في مُثبِّتٍ بالأرض، وذلك بهدف تعليمها على عدم الحركة وتحقيق الانضباط، وتنقاد المطيّة بعد ذلك لمُضمِّرها لتعليمها على المشي الحر والتبريك بواسطة العصا، وَيَلي ذلك وضع “الشداد“المُحمَّل بالأثقال لتدريبها على التحمّل ثم تُترك المطيّة بوضعيةٍ ثابتة وَيَلي ذلك المشي، ثم يركب المُضمِّر على مطيّةٍ يُطلَق عليها “المقلُوصة” وهي ناقة مُدرَّبة، وبحسب سرعة الاستجابة تنتهي مرحلة العسافة.
تَعقُب هذه المرحلةَ “التدريبُ للمشاركة في السباق”، ويلزم أن تتم هذه المرحلة خلال فصل الشتاء، فإذا صادفَت بدايةَفصل الصيف تتوقف السباقات، وتدخل المطيّة في حالةٍتُسمَّى “المَقِيظ”، حيث تُعدُّ فترةَ غذاءٍ وراحة، وتأخذ المرحلة الثانية منحنياتِها ابتداءً من تدريب المطيّة على المشي والشداد على الـ “مقلُوصة”، ولا تستدعي تلك الخطوة وجود راكب، وتنطلق المطيّة بمسافاتٍ قصيرة حوالي أربعة أو خمسة كيلومترات يومياً، ويزداد طولُالمسافة تدريجياً مع التركيز على جوانب الطاعة وسرعة الاستجابة، ثم تبدأ المطيّة بالتدريب على “الخبب” أو الركض مع الركوب لمسافات قصيرة، تَتبُعها مرحلةُ المشي لتهدئة العضلات والتنفّس، ويستمر التدريب صباحاًومساءً لمدة عشرين يوماً.
وتُمثّل مرحلةُ “التفحيم” آخرَ مراحل التضمير، إذ يتم تقليل كمية الطعام بالمساء، وكذلك الماء لمدة يوم، كما تُمنع المطيّةُ من الشعير وفي المقابل يٌقدَّم لها فقط القتّالأخضر “البرسيم” بهدف تخفيف وزن الجسم، وفي الختام يتم تقييم لياقة المطيّة وسرعتِها وذلك من خلال “العدو” الركض السريع، إذ تبدأ المسافةُ بكيلومترين، وتزداد بمقدار كيلومتر كل أسبوع حتى تصل إلى ست كيلومترات، وعند نجاح المطيّة في هذه المرحلة يتم إعلان جاهزيّتها للمشاركة.