يستحث عام الشعر العربي -الذي اتخذته وزارة الثقافة مسمى لعام 2023م-، العقول الموغلة في المعرفة؛ للإياب إلى الماضي واصطحاب القصائد الأصيلة نحو اللحظة الآنية، ففي هذا الحوْل ذي الفصول الشعرية الممطرة؛ يقف جمهور الأدب على ناصية الثقافة مطلّين على “المعلقات” أجزل ما نَظمه العرب.
تَذكُر مراجع التاريخ بأن “حمادا الراوية” المتوفى سنة 156هـ، قد جمع سبع قصائد حين لاحظ انصراف العامة عن حفظ الشعر، وقال لهم هذه “المشهورات”، وسُميّت أيضاً بـ “السبع الطوال” و”السُموط” و”المذهبات”، بيد أنها ذاعت باسم “المعلقات”؛ ويعود سبب التسمية إلى أنها كالعقود النفيسة تَعلَق بالأذهان، ويشير قول آخر إلى أن هذه القصائد كتبت بماء الذهب وعلّقت على أستار الكعبة قبل الإسلام.
واستهلت غالبية القصائد بالتطرق إلى الأطلال واستحضار الديار القديمة، وانفردت بحسن البيان، واللغة المحكمة، وبلاغة التصوير، وتنوع الأغراض، ومن شعرائها امرؤ القيس -المولود في نجد- قائل قصيدة ” قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ”، يذكر التاريخ بأنه أول من “استوقف واستبكى” وأصبح الوقوف على الأطلال طريقة شعرية سار عليها أقرانه من بعده، إذ نرى معلقة الشاعر طرفة بن العبد تنطلق من هذا الأسلوب “لِخَـوْلَةَ أطْـلالٌ بِبُرْقَةِ ثَهْمَـد” وبعدئذ وَصف ناقته وكافة أطرافها، بجانب حياته وتصوراته الفكرية.
ومن شعراء المعلقات، زهير بن أبي سلمى، المولود بالقرب من المدينة المنورة، وعاش في نجد، وقال في بداية معلقته: “أَمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَـةٌ لَمْ تَكَلَّـمِ بِحَـوْمَانَةِ الـدُّرَّاجِ فَالمُتَثَلَّـمِ”، ويتضح من خلال أبياته حكمته ووقاره، وذُكر بأنه يكتب القصيدة في أربعة أشهر، ويهذبها في أربعة، ويعرضها على أخصائه في أربعة.
وبهذا البيت الأخّاذ “عـفـتِ الـديـارُ مـحـلُّـهـا فـمُـقـامُـهَــا.. بـمـنًـى تـأبَّـدَ غَـوْلُــهـا فَـرِجَــامُـهَــا” سطّر لبيد بن ربيعة معلقته المتميزة بفصاحة اللفظ والمعنى، وصوّر دياره الماضية وانهمار الأمطار عليها، ثم استطرد إلى الغزل ووصف ناقته، واختتمها بالحديث عن نفسه. من جانبه، خلّد عمرو بن كلثوم نَفيسته بمقدمتها المعروفة وهو يصدح بها في سوق عكاظ: “اَلا هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِينَـا.. وَلاَ تُبْقِي خُمُـورَ الأَنْدَرِينَـا”.
أما عنترة بن شداد فأثارت وقائع حياته؛ مَلَكته الشعرية، وخطّ أزكى الأبيات، واجتمعت به صفتا الشجاعة والنَظم البارع، وكان أبوه “شداد” من كِبار بني عبس، بينما والدته هي زبيبة الحبشية؛ مما حرك به الحماسة والفخر بسبب من ينتقص منه، ولقّب العرب معقلته بـ “الذهبية”، وسار بها إلى 79 بيتاً حين قال: “هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَـرَدَّمِ.. أَمْ هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ”.
وشرع الحارث بن الحلزة معلقته بـ “آذَنَـتــنَـا بِــبَــيــنــهــا أَســمَــــاءُ.. رُبَّ ثَـــاوٍ يَــمَـلُّ مِــنــهُ الثَّــواءُ”، وأتى على ذكر الفراق، والغزل، والناقة، والفخر، ومدح قومه، وضم العرب فيما بعد إلى المعلقات السبع؛ ثلاث قصائد أخرى، وهي: “ودع هريرة إن الركب مرتحل” للأعشى، و “أقفر من أهله ملحوب” لعبيد بن الأبرص، وقصيدة النابغة الذبياني “يا دار مية بالعلياء فالسند”.
يذكر أن وزارة الثقافة تسعى من خلال “عام الشعر العربي” إلى إحياء تاريخ الشعر، وتعزيز حضوره ومكانته، وإبراز مكوناته الحضارية وتجذره التاريخي؛ بوصف الجزيرة العربية مهد الشعر العربي وموطنه الأصلي.