من شقتها المطلّة على ناطحة السحاب “شارد” اللندنية الشهيرة، تعمل الاستشارية في إحدى شركات التوريد رايتشل واتسون منذ الحجر الصحي الأول في بريطانيا، قبل نحو عام، لكنها تقرّ بأنها كانت تفضّل لو لم يكن مكتبها “في غرفة الاستقبال” وقبل الجائحة، كانت تقصد يومياً مكتبها الكائن في حي المال والأعمال اللندني الشهير “سيتي” وسط العاصمة البريطانية.
ففيما تعتزم بريطانيا رفع كامل القيود الصحية المتصلة بمكافحة كورونا اعتباراً من 21 يونيو المقبل مع التقدم السريع لحملة التلقيح، تأمل واتسون الاستمرار في التوفيق بين العمل من المنزل حيناً ومن المكتب حيناً آخر، للاستفادة من حسنات كل منهما وتلقى هذه الصيغة ترحيب عدد متزايد من الشركات والموظفين.
ويلاحظ مركز “ديموس” للأبحاث أن 65% ممن يعملون في بريطانيا اضطروا للتحول إلى العمل من المنزل أو التوقف عن العمل بسبب الوباء، وأن 79% من الأشخاص الذين يعملون من المنزل يرغبون في الاستمرار على هذا النحو حتى بعد رفع القيود، بدوام جزئي أو كامل.
ويبدو أن الشركات تحبّذ المضيّ في هذه الصيغة أيضاً، إما بهدف زيادة إنتاجية الموظفين وراحتهم، أو كذلك لتقليص تكاليف كبيرة في الإيجارات ومن بين المجموعات التي تدرس اعتماد نهج هجين يجمع العمل من المنزل والمكتب، شركات عالمية كمصرفّي “إتش إس بي سي” أو “نيشن وايد” وشركة التدقيق “برايس ووتر هاوس كوبرز” وشركة الخطوط الجوية البريطانية.
وأبلغ “إتش إس بي سي” الأربعاء إلى أكثر من 1200 موظف في مراكز الاتصال التابعة له أن في إمكانهم العمل من المنزل بصورة دائمة وتلاحظ رايتشل واتسون أن العمل مِن بُعد يوفّر “توازناً أفضل بين العمل والحياة”: فبدلاً من إضاعة الوقت في وسائل النقل العام المكتظة، أصبح لديها الوقت لتنزيه كلبها أو القيام بأنشطة أخرى.
لكن من مكتبها المليء بالشاشات وعلب الأفلام في غرفة الاستقبال، تقول إنها تستمتع أيضاً بالذهاب إلى المكتب وبإمكان “الفصل الحقيقي” بين هذين المكانين وقد بدأ صاحب المؤسسة التي تعمل فيها في سبتمبر الفائت تطبيق سياسة تسمح للموظفين باختيار المكان الذي يريدون العمل منه في المستقبل، والطريقة التي يفضلونها.
ومعظم الموظفين البريطانيين في إنجلترا خصوصاً عملوا من المنزل خلال عمليات الإغلاق الثلاث إلا أن كثيرين وجدوا صعوبة في ذلك لصغر المنازل حيث يكون عليهم التوفيق بين التبضع والتنظيف والتركيز على العمل فيما أولادهم يتابعون حصصهم المدرسية عبر الإنترنت، وأزواجهم يشاركون طوال اليوم أيضاً في الاجتماعات الصاخبة عبر تطبيق “زوم”.
ويصف رئيس بنك الاستثمار في مصرف ج”غولدمان ساكس” ديفيد سولومون العمل من المنزل بأنه “انحراف”، في حين يقول رئيس مصرف “جيه بي مورغان” المنافس جيمي ديمون إن تأثيره على الإنتاجية كان سلبياً.
ومن هذا المنطلق، يحرص المصرفي فلاديمير أوليفييه “30 عاماً” على الذهاب إلى مكتبه في لندن مرة واحدة في الأسبوع منذ فبراير ويقول “قبل الوباء كنت أعمل خمسة أيام في الأسبوع وأسافر كثيرا لمقابلة العملاء”.
ويضيف من منزله في العاصمة البريطانية “أكثر ما افتقده هو التواصل البشري هذا العمل غير ممكن إذا كان المرء حبيس غرفته طوال اليوم وراء شاشة” ويرى أن “ما يجعل العمل أحياناً ممتعاً ويعين على تحمّله هو التفاعل مع الزملاء أو الأصدقاء في المكتب”.
وحضّ وزير المال البريطاني ريشي سوناك الشركات على عدم التخلي عن المكاتب نهائياً، خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى جعل مراكز المدن مهجورة إذا تركتها الشركات التي استقرت فيها، كما هي حال حي “سيتي” اللندني الذي يشكّل الرئة المالية لبريطانيا، وقد تحوّل ما يشبه مدينة أشباح على مدى شهور.
وتٌبيّن دراسة استقصائية أجراها اتحاد الصناعة البريطاني “سي بي آي”، وهو أبرز هيئة بريطانية لأرباب العمل، أن ثلاثة أرباع الشركات تتوقع أن تصبح الصيغة الهجينة للعمل هي السائدة.
ويرى أستاذ المالية في جامعة “سيتي” في لندن كيث كاثبرتسون أن تقسيم العمل بين المنزل والمكتب يمكن أن “يفيد كلاً من أرباب العمل والموظفين، وهو من النتائج الإيجابية القليلة التي يمكن أن تنشأ من الصدمة الاقتصادية للوباء”.