ترجمة- أحمد مختار*
في الوقت الذي تعاني فيه مختلف دول العالم من معدلات متفاوتة من الإصابة بفيروس كورونا، يجد أكثر من 1.2 بليون طفل في 186 دولة في مختلف أنحاء العالم أنفسهم مضطرين للمكوث في منازلهم امتثالاً لقرارات إغلاق المدارس التي فرضتها الجائحة. ومع هذا الابتعاد المفاجئ عن الفصول الدراسية في أجزاء كثيرة من العالم، يتساءل البعض عما إذا كان التحول إلى التعليم عن بعد سوف يستمر بعد انقضاء فترة الجائحة، وكيف سيؤثر هذا التحول على سوق التعليم في مختلف أنحاء العالم.
تجدر الإشارة هنا إلى أن العالم شهد تطوراً كبيراً، قبل حلول الجائحة، في تقنيات التعليم عن بعد وتبنيها، حيث بلغ إجمالي استثمارات العالم في هذا القطاع 18.66 بليون دولار أمريكي في العام 2019م، كما أن التقديرات تشير إلى احتمال بلوغه 350 بليون دولار بحلول العام 2025م. ومع انتشار الفيروس يشهد العالم نموا مطردا في استخدام مختلف أنواع تطبيقات التعليم عن بعد، مثل التطبيقات اللغوية وتطبيقات الدروس الافتراضية وأدوات مؤتمرات الفيديو وبرامج التعلم عن بعد.
ومع تزايد الإقبال على الخدمة، توفر العديد من منصات التعليم عن بعد إمكانية الدخول المجاني في خدماتها، ومن هذه المنصات مثلاً منصة “BYJU’S”، وهي شركة تقنيات تعليمية تأسست بمدينة بنغالور بالهند في العام 2011م، وتعد الآن شركة تقنيات التعليم الأفضل على مستوى العالم. فمنذ الإعلان عن دروس حية مجانية على تطبيقها “Think and Learn”، شهد الموقع زيادة بمعدل 200٪ في عدد الطلاب الجدد الذين يستخدمون هذا المنتج.
وفي الصين أطلقت مجموعة تينست المتخصصة في منتجات وخدمات الإنترنت فصولها الرقمية التي تستخدم على نطاق واسع منذ منتصف فبراير، بعد صدور قرار الحكومة الصينية باستئناف الدراسة في المراحل المختلفة عبر المواقع الإلكترونية، حيث نتج عن القرار أضخم “حركة تحول نحو التعليم عن بعد” في تاريخ التعليم بتوجه نحو 730,000 طالب، (حوالي 81٪ من طلاب مختلف مراحل التعليم قبل الجامعي في ووهان)، لتلقي الدروس عبر مدرسة تينست الإلكترونية.
وتسعى شركات أخرى لتعزيز قدراتها لتوفير منصة تعليم مشتركة تجمع المعلمين والطلاب. فعلى سبيل المثال، بدأت منصة لارك “Lark” – وهي منصة تعاون على الإنترنت مقرها سنغافورة، طورتها شركة بايتدانس “ByteDance” لتلبية الطلب المتسارع على خدماتها – في تزويد المعلمين والطلاب بخدمات مؤتمرات الفيديو وإمكانيات الترجمة التلقائية وخدمات الجدولة الذكية وغيرها. ولضمان التواصل الموثوق وتوفير هذه الخدمات في أسرع وقت ممكن، خاصة في أوقات الأزمات، عززت لارك بنيتها التحتية العالمية وقدراتها الهندسية.
ومن الشركات الكبيرة التي تسعى لمواكبة موجات الإقبال على خدمات التعليم عن بعد مجموعة علي بابا” الصينية المتخصصة في تقنيات الإنترنت والتجارة الإلكترونية، التي أنشأت منصة مستقلة لخدمات التعليم عن بعد أطلقت عليها اسم دينغتوك (DingTalk). ففي مارس الماضي أوعزت دينغتوك إلى شقيقتها Alibaba Cloud لنشر أكثر من 100,000 خادم حوسبة سحابية جديد في ساعتين فقط، مسجلة رقما قياسيا جديدا لسرعة تعزيز القدرات.
وبينما يعتقد البعض أن هذا التحول السريع إلى التعليم عن بعد – دون الاهتمام بما يتطلبه ذلك من تخطيط، ومع عدم توفر التدريب اللازم وعدم كفاية عرض النطاق الترددي المطلوب لنجاحه – سيؤدي إلى تجربة استخدام سيئة غير قابلة للنمو المستدام، يرى البعض الآخر أن التطور في هذا المجال سوف ينتج نموذجا هجينا جديدا للتعليم ذا مزايا كثيرة.
وقد أفرز هذا التحول المفاجئ العديد من التحديات التي يتطلب التغلب عليها جهوداً كبيرة. فعلى سبيل المثال، يعاني الطلاب في العديد من الدول من ضعف خدمات الإنترنت، أو عدم توفرها، أو عدم القدرة على الحصول على التقنيات التي يتطلبها التعليم الرقمي. هذه المعاناة هي نتاج الفجوات في الدخول بين دولة وأخرى وبين طبقات المجتمع المختلفة داخل الدولة الواحدة. ففي حين يمتلك 95٪ من طلاب المدارس في سويسرا والنرويج والنمسا مثلاً حواسيب خاصة يمكنهم استخدامها في أنشطتهم الدراسية، نجد أن النسبة لا تتجاوز 34٪ فقط في إندونيسيا وفقا لتقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
وبالنسبة لأولئك الذين يحظون بإمكانية الحصول على التقنيات المناسبة تدل التجارب على أن التعلم عن بعد أكثر فاعلية مقارنة بالتعليم التقليدي، حيث تشير الأبحاث إلى أن الذاكرة يمكنها استيعاب مادة الدرس بنسب تتراوح بين 25و60٪ في حال التعلم عن بعد، مقارنة بما يتراوح بين 8 و10٪ فقط في حال تلقي الدروس في الفصل الدراسي. ويعود هذا في الغالب إلى قدرة الطلاب على التعلم بشكل أسرع عن بعد، حيث يتطلب التعلم الرقمي وقتاً أقل لأن الطلاب يمكنهم التعلم بالسرعة التي تناسبهم بتفعيل إمكانيات إعادة القراءة أو الاستماع والتخطي والإسراع وغيرها من الإمكانيات التي تتيحها التقنيات الحديثة.
وتتفاوت فاعلية التعلم عن بعد بتفاوت أعمار المتلقين. فبالنسبة للأطفال، وخاصة الأصغر سنا منهم، يجمع الدارسون على ضرورة توفر البيئة المرتبة، لأن الأطفال يسهل تشتيت انتباههم. ويتطلب الحصول على الفائدة المرجوة من التعلم عن بعد تضافر الجهود لتوفير هذه البيئة، دون أن يكون ذلك تكرارا لنمط المحاضرات الفصلية، بالاستفادة من إمكانات الفيديو واستخدام أدوات التعاون على الإنترنت وطرق المشاركة التي تعزز الاحتواء والخصوصية والذكاء.
وحيث إن الدراسات تشير إلى أن الأطفال يستخدمون حواسهم بشدة عند التعلم، فإن جعل التعلم عن بعد ممتعا وفعالا بالنسبة للطفل، باستخدام أحدث وسائل التقنية، أمر بالغ الأهمية. فالطفل مثلا يحب الألعاب، ولذلك فإن استخدمها بذكاء في التعليم الرقمي يجعله أكثر تجاوبا ويحفزه للمشاركة وقد يوقعه في حب التعلم.
لا شك أن جائحة كورونا عطلت تماما نظام تعليم ظل الكثيرون يؤكدون أنه فقد مبررات وجوده. ففي كتابه، “21 درسا للقرن الحادي والعشرين” يشير الباحث يوفال نوح هراري إلى إصرار المدارس على التركيز على المهارات الأكاديمية التقليدية والحفظ عن ظهر قلب، عوضا عن الاهتمام بمهارات التفكير النقدي والقدرة على التكيف وغيرها من المهارات التي قد تكون عونا له على النجاح في المستقبل. فهل يمثل هذا المنعطف نحو التعلم عن بعد السانحة المناسبة لابتكار وسيلة جديدة أكثر فاعلية لتعليم الطلاب؟ قد يشعر البعض بالقلق من أن الطبيعة المتسارعة لهذا التحول ربما يعوق تحقيق الأهداف المرجوة منه، غير أن البعض الآخر يرى فيه مخرجا لجعل التعليم الرقمي جزءا من “وضعهم الطبيعي الجديد” بعد أن جربوا مزاياه بشكل مباشر.
في الكثير من الأحيان تمثل الأحداث العالمية الكبرى نقاط انعطاف نحو ابتكار سريع، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك بروز التجارة الإلكترونية بعد وباء سارس. ورغم أنه من المبكر الحكم بأن هذا ينطبق على التعليم الرقمي بعد فيروس كورونا، فإن التعليم عن بعد يعد أحد القطاعات القليلة التي لم يجف فيها الاستثمار بعد. ولعل أوضح ما أفرزته هذا الجائحة هو أهمية نشر المعرفة عبر الحدود والشركات ومختلف شرائح المجتمع. وإذا كان بمقدور تقنيات التعليم عن بعد أن تؤدي دوراً في هذا الإطار، فمن واجبنا جميعا استكشاف إمكاناتها كلها.
- من تقرير نُشر مؤخراً بموقع المنتدى الاقتصادي العالمي